الأسرة كما يراها الإسلام ، هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع الإسلامي، وقد أولاها القرآن الكريم إهتماما بالغا بإعتبارها حصن الفرد والمجتمع ، والمدرسة التي تتربى فيها الأجيال. فهو ما يفتأ يعالج القضايا المتصلة بها بين سورة وأخرى ، ليرسم المنهج المتكامل لمسيرة النكاح والمعاشرة والتربية ، وعلاقاتها المختلفة، وفيما بينها حالات الشقاق والطلاق.
وبالرغم من ان بعضا من المذاهب كالمسيحية الكاثوليكية تحرم الطلاق البتة، وبالرغم من أنه في شريعة الإسلام نفسه أبغض الحلال إلى الله، فقد جاء الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله ، وأنه قال : (تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش) [مجمع البيان/ ج1/ص304].
الا انه تعالى يشرعه ، لأن الروابط الزوجية في نظر الإسلام إنما وضعت لأهداف فردية وأسرية وإجتماعية وحضارية ، فإذا أصبحت لا تؤدي الأغراض أو أضرت بها ، فإن الطلاق يصير الأولى منها.
وحيث ان الطلاق عملية هدم لكيان الأسرة ، فقد أسس الله دينه على الوقاية منه ، وفي هذا السياق تنتظم الكثير من القيود ، التي وضع ليصبح الطلاق مشروعا ، كوجوب العدة ، وبقاء الزوجة في بيت زوجها حينها لا هو يخرجها ولا هي تخرج منه ، وحضور شاهدي عدل حين الطلاق ، وما إلى ذلك.
ويلاحظ إلى جانب سياق الآيات القرآنية الذي يعالج مشكلة الطلاق من الناحية القانونية تأكيدات متتالية على أهمية التقوى وبصيغ مختلفة ، لأنها الدرع الذي تحصن المجتمع ضد المشاكل كالطلاق ، ولأنها الضمانة الحقيقية والأهم لإلتزام الإنسان بحدود الله وتنفيذها في كل مكان وزمان.
في أول آية من سورة الطلاق يوجه الله تعالى الخطاب إلى رسوله بصورة خاصة، باعتباره مسؤولا عن الأمة وشاهدا عليها، ثم يعم المسلمين ببلاغة فائقة، وذلك بالقول: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء). وذلك لكي ينسف المزاعم التي تقول بأن علاقة الرجل بزوجته وتدبيره لشؤونها أمرا خاصا به، ولا يمت بصلة إلى الدين الذي تمثله القيادة الإسلامية. ويؤكد بأن هذا الوهم غلط فاضح، لأن علاقة الرجل بزوجته لا تقف عند حدود مصالح الفرد، بل تعم المجتمع، وليست الزوجة عضوة في المجتمع الإسلامي، وبالتالي لها إمتداداتها وعلاقاتها بالمجتمع وبقيادته؟ فلابد ان يكون التعامل معها ضمن حدود الله وتوجيه القيادة الربانية، ولذلك بدأ الخطاب بالنبي ثم توسع إلى سائر المسلمين.
ولان هناك طلاق الجاهلية وطلاق البدعة، لم يدع الوحي الكلمة هكذا ، إنما حدد النوع المشروع والصحيح من الطلاق ، وهو الذي تبين الآيات اللاحقة حدوده وشروطه ، ومن شروطه العدة ، وان يتم في طهر لم يواقعها فيه ، لأنه وحده الذي يدخل في حساب العدة الشرعية.
قال الله تعالى : (فطلقوهن لعدتهن).
والملاحظ أنه تعالى قال: (طلقتم) بصيغة الماضي ، ثم قال : (فطلقوهن) مما يدل على ان للطلاق مرحلتان ، المرحلة النفسية الداخلية ، والمرحلة القانونية الظاهرية ، وتلك تسبق هذه ، إلا أنها لا تكفي لتحقيق الطلاق ، لأنه يجب إجراء الطلاق وفق حدوده ومنها الصيغة التي تفيد إيقاعه.
وتهدينا الآية إلى ان المرأة لا تنفصل كليا عن زوجها بمجرد ان تنطلق من لسانه صيغة الطلاق الأولى، لتكون حرة في إختيار غيره مثلا. إنما تبقى في بيته وتحت مسؤولية أثناء عدتها، فإذا انتهت العدة سرى مفعول الطلاق عمليا، فتنفصل المرأة عن زوجها تماما لتصبح في غير عهدته ، الا ان يرجع إليها وترجع إليه.
لذلك قال تعالى : (وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم).
وقد أمر الرجل بالذات بالإحصاء، لان الطلاق بيده ، ولأنه المسؤول عن المرأة في سكنها ونفقتها وحمايتها.. فلابد ان يحصي لكي يعرف بالضبط متى يمكنه التحلل من هذه المسؤولية الشرعية.
والتأكيد على التقوى بعد الأمر بإحصاء العدة يهدينا إلى ضرورة الدقة في الحساب، لأن التقوى هي التي تمنع الكذب والتلاعب في مصير الآخرين..
وفي الآية تحذير للزوجين ، بأن الله رقيب وشاهد لا يمكن مخادعته أبدا، وينبغي إتقاء سخطه وعذابه.
ولأن فترة العدة مصيرية بالنسبة لعلاقة الطرفين ، ففيها يراجع الرجل نفسه ويقيم زوجته من جديد ليقرر الرجوع إليها أو الإنفصال عنها. فيجب عليه ان يدرك ان الله مراقبه في كل ذلك ، وعليه ان يكون منصفا.
ويوصل القرآن الدعوة للتقوى بالنهي عن إخراج المطلقات من بيوت الزوجية قبل العدة ، وهكذا نهين عن الخروج ، لأن ذلك هو الآخر يحتاج إلى المزيد من خشية الله وتقواه.
قال سبحانه: (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن)
إذن ، فقول الرجل لإمرأته : أنت طالق ، لا يخرجها من مسؤوليته ، ولا يبرر لها التمرد عليه.. فإن البيت يبقى بيتها ، لا يجوز إخراجها منه ، وهي تبقى في عهدته لا يحق لها الخروج من تحت يده مادامت العدة لم تنقض.
ولعل بقاء المرأة في بيت زوجها أثناء العدة -بالذات مع ملاحظة ماندب إليه الإسلام من التبرج والتزين لزوجها- صلاح كبير، باعتباره يشدهما لبعضهما ، ويعيد الرجل زوجته من زوايا إنسانية وعاطفية وجنسية ، حيث يرى الجمال والزينة. ومن زاوية دينية باستشعار التقوى ، ان كان ثمة طريق للرجعة والانسجام.
وقد قال الإمام الصادق عليه السلام في هذا الخصوص : ( المطلقة تكتحل وتختضب وتطيب وتلبس ما شاءت من الثياب ، لان الله عز وجل يقول ( لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) لعلها ان تقع في نفسه فيراجعها) [نور الثقلين/ ج5/ ص352].
ويستثني القرآن مبررا واحدا تبين بسببه الزوجة من زوجها مباشرة ، بحيث يجوز له إخراجها من بيته فلا يكون بيتها ولا يتحمل مسؤولية النفاق عليها وما أشبه في العدة ، وهو ان تأتي بفاحشة.
قال الله عز وجل: (الا ان يأتين بفاحشة مبينة)
ومادامت -هذه- حدود الله ، فهي مفروضة وواجب مراعاتها بالسير على هداها والخريطة التي ترسمها ، لما فيها من صلاح للفرد والأسرة والمجتمع.
ولا يجوز للإنسان ان يصطنع لنفسه حدودا غيرها بإدعاء ان القضية شخصية كلا ، إنما التشريع لله وحده.
قال الله جل وعلا : (وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) لأنه لا تبقى سعادة ولا قيمة في العلاقات الزوجية التي لا تحكمها الضوابط ، ولأن المجتمع الذي لا يحترم النظام يحكم بعضه بعضا ويسوده الظلم.. فمن الخسران ان لا نتبع أحكام الله وشرائعها ، وهل هناك أحسن من الله حكما؟.