المجتمع الإنساني في القرآن الكريم (1)

پدیدآورمحمدباقر الحکیم

تاریخ انتشار1388/10/05

منبع مقاله

share 2339 بازدید
المجتمع الإنساني في القرآن الكريم (1)

محمد باقر الحكيم

الإنسان والمجتمع الإنساني موضوع وهدف أساسي في القرآن الكريم، لما حظي به الكائن البشري من كرامة عند الله، ومكانة في الكون، وقدرة على الخلافة. وسور القرآن الكريم تتناول جوانب شتى مما يرتبط بالإنسان والمجموعة البشرية في إطار عقائدي تارة واجتماعي وتاريخي وأخلاقي تارة أخرى.
والأستاذ الباحث أتحف مجلة رسالة التقريب بمجموعة أبحاث في هذا المجال الحساس الهام بدأه بمباحث تمهيدية تطرق فيها إلى أنواع التفسير ثم إلى موضوع البحث وأهمية والأبعاد التي جعلت الإنسان محورا للحياة.

المدخل

في البداية يحسن بنا أن نقف قليلا عند المنهج العام للبحث والحاجة إليه، وهو: «التفسير الموضوعي»، وموضوع البحث وأهميته، وهو: «المجتمع الإنساني».

1 ـ منهج البحث

تختلف الدراسات التفسيرية للقرآن الكريم فيما بينها وتتنوع في المنهج والمضمون تبعاً للموضوعات التي تهتم بها والمدرسة التي ينتمي إليها المفسر، فنرى بعض المفسرين يتجه إلى تأكيد الموضوعات اللغوية واللفظية في النصّ القرآني، وبعضهم الآخر يتجه إلى تأكيد الموضوع التشريعي والفقهي، وثالثاً يولي اهتمامه الموضوع العقائدي...
ويلتزم بعض المفسرين منهج الحديث ويفسرون القرآن بالمأثور، بينما يعتمد غيرهم منهج المجمع بين المعقول والمنقول، أو منهج التدبر والتحليل، أو منهج تفسير القرآن بالقرآن، وهكذا...
وبالرغم من هذا الاختلاف في مذاهب التفسير وتعدد مدارسه وتباين اهتماماته، هناك منهجان رئيسيان متبعان في تفسير القرآن الكريم، وهما: منهج التفسير الترتيبي (التجزيئي)، والتفسير الموضوعي.

أولا: التفسير الترتيبي (التجزيئي)

وهو المنهج الذي اعتاده المفسرون منذ بدايات تكون علم التفسير وحتى عصرنا الحاضر، حيث يفسر القرآن الكريم، قطعة قطعة، وكما هو مدّون في المصحف الشريف، فيبدأ المفسر بسورة الحمد وينتهي بسورة الناس.
ويستعين المفسر في إطار هذا التفسير ـ عادة ـ بظهور الكلام في المعنى المراد، وبالقرائن المأخوذة من القرآن الكريم نفسه، وذلك بمراجعة الآيات الأخرى، أو الآية التي تشترك مع المقطع موضع البحث في بيان مصطلح أو مفهوم أو فكرة، أو يستعين بالقرائن الحالية التي تعرف عادة من خلال مراجعة ظروف نزول القرآن من قبيل ما يسمى بأسباب النزول، وما أشبه ذلك من المسلمات التاريخية أو المستنبطة من القرآن الكريم نفسه.
كما يستعين المفسر ـ أيضاً ـ ببعض المسلمات ـ العقائدية أو الدينية التي يرشد إليها القرآن الكريم ذات العلاقة بالآية موضوع التفسير أو التي يدركها العقل السليم.
ويشكل المأثور مصدراً آخر للقرائن المنفصلة في عملية التفسير بشكل عام، وإن كان دور المأثور الأساس ـ على ما ذكرنا في بحث علوم القرآن ـ (1) هو التوضيح والتفصيل والتطبيق.

سبب تبني المنهج الترتيبي

وقد تذكر أسباب متعددة لتبني هذا المنهج من قبل المفسرين (2)، ولعل أهم الأسباب هو القدسية التي ينظر بها المفسرون إلى مسألة ترتيب القرآن الكريم والمصحف الشريف، باعتبار أن القرآن الكريم والمصحف الشريف ـ ومنذ الصدر الأول للإسلام وحتى يومنا الحاضر ـ مرتب بهذا الترتيب، الذي يبدأ بسورة الحمد وينتهي بسورة الناس، فراعى المفسرون هذا الترتيب وساروا عليه في تفسيرهم.
وبهذا تختلف السنة النبوية عن القرآن الكريم، لأن السنة لم يتم تدوينها بهذه الطريقة المقدسة، واعتمد في تدوينها الموضوعات الفقهية والعقائدية، فكان المنهج الموضوعي هو المنهج العام فيها في عصر التدوين الثاني

ثانياً: التفسير الموضوعي

وقد ولد في أحضان المنهج الترتيبي (التجزيئي) في التفسير، منهج آخر هو المنهج الموضوعي، ولد هذا المنهج ومنذ بدايات تكون علم التفسير في أحضان المنهج الترتيبي وإن لم يكن ـ آنذاك ـ منهجاً شاملاً لكل القرآن الكريم، وإنما كان المفسرون يقفون أحياناً ـ وأثناء تفسيرهم الترتيبي ـ عند موضوع من الموضوعات القرآنية كـ «الإلوهية» أو «التقوى» أو «الشفاعة».. فيفردون لـه بحثاً مستقلاً، محاولين بذلك استكشاف النظرية القرآنية الخاصة به، من خلال عرض وتفسير كل الآيات التي أشارت لـه، وفي مختلف المواضع.
وقد تطور هذا المنهج في عصرنا الحاضر ـ تبعاً للحاجة إليه ـ حتى أصبح منهجاً مستقلاً في البحث والتدوين، وشاملاً لكل القرآن الكريم.
وإذا عرفنا أن القرآن الكريم، قد تناول كل الموضوعات الدينية، بل في بعض النصوص المأثورة، ما يشير إلى تناوله لكل شيء في الوجود (1)، وقد يفهم ذلك ـ أيضاً ـ من قوله تعالى: ?...ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيءٍ...? (2). إذا عرفنا ذلك يمكننا أن نتصور مدى الكم الكبير من الموضوعات التي يمكن تناولها من خلال هذا المنهج التفسيري.

ما هو المقصود من (الموضوعية) في هذا المنهج

قد يتبادر إلى الذهن بأن المقصود من كون هذا المنهج منهجاً موضوعياً، هو
أن يكون البحث فيه بحثاً معتمداً على الحقائق العلمية الخارجية، في مقابل البحث الذي يعتمد على الظنون والأوهام أو الذوق والاستحسان، بحيث يكون بحثاً متحيزاً، يتبنى فيه الإنسان أفكاراً مسبقة يحملها على القرآن الكريم.
إلا أن هذه الصفة لا تشكل مائزاً للمنهج الموضوعي في مقابل المنهج الترتيبي (التجزيئي)، بل هي صفة ضرورية ومطلوبة في كلا المنهجين، لأن تفسير القرآن لابد أن يعتمد على الآيات القرآنية الأخرى، التي تلقي ضوءاً على فهم القرآن، وكذلك على الوسائل العلمية التي اعتمدها القرآن والإسلام في إثبات المعاني والمضامين المقصودة من الألفاظ (1)، والاعتماد على الأوهام والظنون، والتحيز في التفسير، وتبني الأفكار المسبقة فيه، هو من «التفسير بالرأي» الذي ورد النهي عنه بشدة في السنة النبوية، حتى عبرت عنه بعض الروايات بدخول النار والكذب على الله «... من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار» و«..ومن جادل في آيات الله كفر.. ومن فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب.. الحديث» (2).
والصحيح أن «الموضوعية» المذكورة في هذا المنهج تعني أحد أمرين:
الأول: هو ملاحظة الموضوعات الحياتية الخارجية المختلفة التي يعيشها الإنسان في هذا العصر، ومحاولة دراسة هذه الموضوعات على ضوء القرآن الكريم، من أجل تحديد الموقف القرآني منها.
فنأخذ ـ مثلاً ـ موضوع انتخاب الحاكم من قبل المجتمع، ونخضعه للدراسة
على ضوء القرآن الكريم، لنرى هل أن هذا الانتخاب صحيح، أو باطل قرآنياً ؟ أو أن فكرة الانتخاب صحيحة في أصلها، ولكن تحتاج إلى إصلاح ؟ وهكذا الأمر بالنسبة إلى كل ظاهرة وموضوع نواجهه في الحياة الإنسانية.
ولعل هذا المعنى للموضوعية هو المراد من بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) والتي تحدثت عن تأويل القرآن الكريم، حيث ذكر في هذه الروايات أن القرآن الكريم لـه تأويل في كل عصر وزمان ولا يعرفه إلا الراسخون في العلم. فقد روى الصفار في بصائر الدرجات بطريق معتبر عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية: «ما من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن» قال: ظهره وبطنه تأويله، ومنه ما قد مضى ومنه ما لم يكن، يجري كما تجري الشمس والقمر كلما جاء تأويل شيء يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله: ?وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم? نحن نعلمه» (1).
فبطن القرآن تأويله، وتأويله هو تطبيق القرآن على ما يأتي من الحوادث والموضوعات، مما لم يكن في عصر نزول القرآن، فهو في هذا الانطباق على الحياة الاجتماعية، مثل الشمس والقمر التي تنطبق على الحياة الكونية، فكلما وجدت ظاهرة اجتماعية جديدة، كان للقرآن الكريم تأويل وتطبيق، فهو ينطبق على الأحياء الآن كما كان ينطبق على الأموات.
وتؤكد هذه الرواية ما رواه الصفار بطريق معتبر ـ أيضاً ـ عن إسحاق بن عمار من قول الصادق (عليه السلام) «إن للقرآن تأويلاً، فمنه ما قد جاء، ومنه ما لم يجئ فإذا وقع التأويل في زمان إمام من الأئمة عرفه إمام ذلك الزمان» (2).
وقد شكل هذا المنهج، وهو تطبيق الآيات على المصاديق والشواهد الحياتية الخارجية، أحد خصائص التفسير المروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) (1).
الثاني: اختيار الموضوعات القرآنية وتقسيمها، موضوعا موضوعاً في مجال البحث والتناول، ثم نأتي بكل الآيات القرآنية التي تناولت ذلك الموضوع من أجل استنباط النظرية القرآنية الخاصة به.
فهي عملية استكشاف للصورة، بربط أجزائها بعضها ببعض، لاكتشاف التصور القرآني الكامل عن أبعاد الموضوع الذي يتناوله البحث، فليس التفسير الموضوعي هنا مجرد جمع الآيات القرآنية وتفسيرها حول موضوع واحد، بل هو استكشاف النظرية القرآنية حول هذا الموضوع من خلال هذا الجمع والتفسير.
وبهذا يكون هذا المعنى من التفسير الموضوعي مكملاً للمعنى الأول (2).

حاجة العصر إلى التفسير الموضوعي

لقد عرف الإسلام في أنظمته وتشريعاته طريقه إلى المجتمع ـ في الصدر الأول ـ من خلال التطبيق، ذلك لأن الجانب الاجتماعي من الإسلام لم يطرحه الرسول (صلى الله عليه وآله) بصورة نظريات عامة، وإنما طرحه الرسول (صلى الله عليه وآله) من خلال التطبيق الخارجي لها وحسب الحاجات ومتطلبات الحياة الجديدة، حيث كان يبين القوانين والتشريعات اللازمة ويشخص الأحكام المختلفة في قضايا

المجتمع التفصيلية.

ولذلك لم يكن الإنسان المسلم بحاجة إلى تصور النظرية، لأنه يعيش الإسلام وروحه وآثاره من خلال التطبيق.
ولكن حينما انحسر الإسلام عن التطبيق في مجتمع المسلمين وواجه النظريات المذهبية الاجتماعية والعقائدية المختلفة، ظهرت الحاجة الملحة إلى البحث الموضوعي القرآني في مختلف المجالات، لأن الإسلام أصبح بحاجة إلى أن يعرض بصورة نظرية مذهبية جاء بها الرسول (صلى الله عليه وآله) عن طريق الوحي الإلهي، من أجل أن تتضح الصورة الإسلامية في مدى صلاحية النظرية لمعالجة مشاكل الحياة المعاصرة وفهم الإنسان المسلم لها واستيعابها أولاً، ومن أجل مواجهة النظريات المذهبية ومقارنتها بالنظرية القرآنية ومعرفة أوجه مواجهة النظريات المذهبية ومقارنتها بالنظرية القرآنية ومعرفة أوجه الشبه والاختلاف بينها ووجه الامتياز عليها في النظرية القرآنية ثانياً، وللتقليل والتحديد من التناقضات المذهبية أو الاختلافات الفقهية، التي كان أحد أسبابها الاستغراق في التفاصيل والتركيز على الجزئيات ثالثاً.
وعلى أساس هذه الحاجة اخترنا هذا المنهج التفسيري في بحثنا الحاضر، حيث اخترنا موضوعاً من الموضوعات الحياتية المهمة التي تناولها القرآن الكريم، وحاولنا إعطاء النظرية الخاصة به من خلال مجمل الآيات التي تناولت أبعاده المتعددة، والقرائن ذات العلاقة به.

2 ـ موضوع البحث وأهميته

سبقت الإشارة إلى أن القرآن الكريم تناول عدداً كبيراً من الموضوعات العقائدية والأخلاقية والاجتماعية والتاريخية.. وغيرها من مختلف الشؤون والمجالات.
ولعل موضوع «المجتمع الإنساني» الذي عنونا به بحثنا هذا هو من أهم الموضوعات التي تطرق إليها القرآن الكريم لما يشتمل عليه من أبعاد مختلفة، عقائدية واجتماعية وتاريخية وأخلاقية، مثل بداية وجود الإنسان وبداية تكون المجتمع الإنساني، والعناصر الأساسية المقومة لـه، والسنن التي تتحكم في حركة المجتمع والتاريخ، والمراحل العامة التي مر بها المجتمع الإنساني، والتصور العام الذي يجب أن يكون عليه المجتمع الإنساني الصالح، والعوامل الروحية والاجتماعية التي تسوقه نحو الكمال وتحقيق الأهداف التي وضعها الله تعالى أمامه.
وكذلك لسعة دائرة تناول القرآن الكريم لـه، لأن هدف القرآن الكريم هو هداية الإنسان وسعادته وإخراجه من الظلمات إلى النور، وبناء المجتمع الإنساني الصالح، وبذلك أصبح الإنسان في القرآن الكريم موضوعا وهدفاً رئيسياً.
كما أن البحث في موضوع «المجتمع الإنساني» من أهم البحوث التي اهتم بها الإنسان في هذا العصر، فهو موضوع حي ما دام الإنسان حياً على وجه هذه الأرض، ولا يختلف عالمنا الإسلامي عن غيره في هذا الأمر، فبعد أن انتشر في عالمنا المعاصر العديد من النظريات التي تناولت هذا الموضوع ومن مختلف الاتجاهات الفكرية، كان لابد للفكر الإسلامي من البحث فيه من خلال رؤية القرآن الكريم، لمعرفة النظرية القرآنية والتصور الإسلامي بشأنه، ليقدم هذا التصور إلى المجتمع الإنساني ككل، قبال النظريات والتفسيرات المادية الأخرى.

الإنسان محور الحياة

والذي يؤكد أهمية هذا الموضوع هو ما نلاحظه في القرآن من اعتبار
الإنسان محوراً أساسيا للحياة والكون والمجتمع، وبذلك امتازت النظرية القرآنية على غيرها من النظريات.
ويمكن أن نرى ذلك بوضوح من خلال الأمور والأبعاد التالية:

الخلافة في الأرض

البعد الأول ما ذكره القرآن الكريم من أن الله تعالى جعل الإنسان خليفته على الأرض، وبذلك امتاز الإنسان على بقية المخلوقات.
قال تعالى: ?وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة?(1).
وحينما تساءلت الملائكة عن سبب جعل الإنسان خليفة، وهو الذي يصدر منه الفساد وسفك الدماء دونهم وهم يسبحون الله ويقدسونه ?قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ? (2)، أجابهم سبحانه وتعالى بأنه يعلم مالا يعلمون ?قال إني أعلم مالا تعلمون? (3).
ثم عرض سبحانه وتعالى مبرراً عملياً لهذا الامتياز وحق آدم (عليه السلام) بالخلافة دونهم، حيث ميزه بـ «العلم» وذلك بتعليمه الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة وطلب منهم ان ينبؤوه بأسمائهم، فلما عجزوا، طلب من آدم أن ينبئهم بهم، ثم أكد سبحانه وتعالى لهم القول: بأنه يعلم ما في نفوسهم، قال تعالى: ?وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم _ قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنباهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب
السموات والأرض وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون?(1).
وهنا يمكن أن نفهم الخلافة بأنها هي الخلافة التشريعية في إدارة شؤون الأرض وتصرف الخليفة فيها وفي نفسه وفي الكون المحيط به، كما يفهم ذلك من بعض الآيات الكريمة التي تتحدث عن الحكم والمسؤولية عن عمله، قال تعالى: ?يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله...? (2).
وكذلك قولـه تعالى: ?ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين _ ثم جعلناكم خلئف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون? (3).
ولكن يمكن ـ أيضاً ـ ان نفهم هذه الخلافة بأنها خلافة تكوينية في إعمار الأرض وإدارة شؤونها، والحركة والسلوك فيها.
وهذا ما سوف نتناوله بالبحث إن شاء الله.

التفضيل والتكريم

البعد الثاني هو بعد التفضيل والتكريم للإنسان على كثير من المخلوقات، وهو ما يفهم من أمر الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام)، والذي يعبر عن الخضوع والاعتراف بهذه الحقيقة الإلهية، والموقع المتميز لـه بالخلافة لله تعالى على الأرض، قال تعالى: ?وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين? (4).
وكذلك ما ورد من تكريم الله تبارك وتعالى للإنسان على كثير ممن خلق، كما فضله عليهم تفضيلا، إذ نفهم من ذلك الإشارة إلى هذا الموقع المتميز لـه على من حوله في الأرض، بل والكون أجمع، قال تعالى: ?ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا? (1).
القرآن لا يذكر مثل هذا الوصف : «كرّمنا» بصيغة التفضيل لأي مخلوق في هذا الكون ، حتى الملائكة الذين وصفهم بالطاعة والعبادة ، وأنهم ?... عبادٌ مُكرمون? (2)، لم يصفهم سبحانه وتعالى بهذه الصيغة من التفضيل.

حمل الأمانة

البعد الثالث: أن الله خصّ الإنسان بحمل الأمانة دون المخلوقات جميعاً، قال تعالى: ?إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا? (3)، وقد خص الله سبحانه الجبال بالذكر، لما في مظهرها من القوة والقدرة والرسوخ الذي به ثبتت الأرض ورست، ومع كل ذلك لم تتمكن من حمل هذه الأمانة الإلهية، وكان الإنسان مؤهلا لكل ذلك، دون السماوات والأرض والجبال.
وسوف نشير ـ إن شاء الله تعالى ـ في بحث لاحق إلى معنى «الخلافة» ومعنى كون الإنسان ظالماً وجاهلاً، وما يهمنا منا هو تحديد هذا البعد بشأن الإنسان فقط.

تسخير الموجودات للإنسان

والبعد الرابع هو أن الله تبارك وتعالى سخر بقية الموجودات للإنسان، وجعله قادراً على التصرف فيها، كما في قوله تعالى: ?الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون _ وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون? (1).
وكذلك قوله تعالى: ?الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار_ وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخّر لكم الليل والنهار? (2) وغيرها من الآيات (3).
ويمكن اعتبار هذا التسخير والقدرة عليه شعبة من شعب الخلافة وبعداً آخر فيها، والذي يعني إعطاء الإنسان الإمكانات والقدرات التي يحقق بها هذا التمكن من الأرض والكون المحيط به، تعبيراً عن الخلافة التكوينية على الأرض ومن بينها قدرته على تسخير الموجودات فيها، والتي تمثل شيئاً من الامتداد للقدرة الإلهية في التصرف في الأرض والكون، بالإرادة والاختيار، والعقل والعناية الربانية.
فالإنسان بما وهبه الله تعالى من «عقل»، أصبح قادراً على تصور الأشياء في المستقبل بالتركيب بين المفردات الحسية، ومن خلال «إرادته»، أصبح قادراً على السعي لإيجاد هذه الصورة في المستقبل.

الإنسان محور التغيير في الكون

والبعد الخامس هو أن الله سبحانه وتعالى ربط التغييرات الحياتية في هذا الكون بالتغييرات التي تطرأ على الإنسان ومحتواه الداخلي (الروحي والنفسي) وهذه صفة وخصوصية تميز الإنسان بها على بقية الموجودات، بحيث أصبح هو المحور لهذه الموجودات.
وهذا البعد يمثل النتيجة لبقية الامتيازات السابقة ويعبر عنها، فنحن نرى من خلال القرآن الكريم، أن التغييرات الاجتماعية في الحياة الإنسانية، ترتبط بالتغييرات النفسية، والتغييرات الكونية ترتبط بالتغييرات الاجتماعية الكلية، قال تعالى: ?... إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم...? (1).
وكذلك قوله تعالى: ?ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون? (2)، إذ ربطت هذه الآية التغيير الذي يحصل في السماء والأرض من نزول البركات والخيرات بالمجتمع الذي تسوده التقوى والإيمان، وعلى العكس من ذلك عندما يعم المجتمع الإنساني الكفر والفساد والفسق والفجور، يتعرض الإنسان إلى العقاب الإلهي والهلاك، كما أشارت إلى ذلك هذه الآية الكريمة، وكما يدل عليه قوله تعالى: ?ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون?(3).
وخلاصة ما يستفاد من الأبعاد السابقة التي ذكرها القرآن الكريم، أن الإنسان يمثل المحور الأساس في هذا الكون المحيط به من سماوات وأرض
ومخلوقات، ومن ملائكة وجن وحيوانات ونباتات.
ولعل العنصر الأساس الذي استحق به هذا الامتياز، بحيث أصبح المحور في هذه الحياة، هو ما أشار إليه القرآن الكريم في بدء خلق الإنسان، حيث أن الله تبارك وتعالى نفخ فيه من روحه، فهو نفحة إلهية تحمل في جوهرها قدراً من الصفات الإلهية، قال تعالى: ?وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا لـه ساجدين? (1)، ولعل هذا هو الذي يفسر الطلب من الملائكة السجود لآدم.

فصول البحث

وقد استدعى هذا العرض للأبعاد المتعددة أن يكون الحديث عن الإنسان و«المجتمع الإنساني» حديثاً هاماً.
وأنه لابد لنا في هذا الحديث أن نبدأ من بداية خلق الإنسان وخلافته في الأرض لنعرف:
أولاً: المبررات لهذه الخلافة والتي سوف تلقي ضوءاً على هذا الامتياز والمحورية.
ثانياً: مسيرة هذه الخلافة من خلقها ووجودها وحتى قيامها على الأرض، وبذلك تتحقق بداية المجتمع الإنساني على الأرض.
فالحديث عن المجتمع الإنساني، يحتاج إلى تناول هذا الجانب من الحديث، وهو فهم الإنسان ووجوده على الأرض، الذي يدخل كعنصر مهم في فهم النظرية القرآنية عن المجتمع الإنساني.
ويكون «الباب الأول» من هذا البحث.
وأما الباب الثاني من البحث، فهو يتناول «المجتمع الإنساني نشوؤه»، حيث نتناول في هذا الباب ـ إن شاء الله ـ العناصر الأساسية التي يتكون منها المجتمع الإنساني، والوحدة الفطرية التي كان يقوم عليها المجتمع الإنساني، وظهور الاختلاف بعد ذلك من خلال العالم الفطري.
وفي الباب الثالث نتحدث عن تأثير الهوى على الوحدة الفطرية وعناصر الثورة والتغيير فيه.
وفي الباب الرابع نتناول موضوع الدين في المجتمع الإنساني، ودور العقيدة الدينية في تقديم المثل الأعلى للإنسان، وتأثير ذلك في العلاقات الاجتماعية، ونقارن بين الإسلام والنظريات الأخرى في هذا المجال.
وفي الباب الخامس نتناول الدولة الإلهية والمجتمع الإنساني، من خلال عرض العناصر الأساسية في نظر الإسلام لوحدة المجتمع الإنساني، ومقومات الدولة وخصائصها، التي تتجسد في المثل والقيم، وفي التشريع الإسلامي، والحاكم الإسلامي والأمة.
وفي الباب السادس نتناول موضوع الأمة الواحدة والمجتمع الإنساني، في محاولة لبيان النهج الذي اتبعه الإسلام، لتحقيق وحدة المجتمع الإنساني، من إيجاد الأمة الواحدة، والتأكيد على دور الأخلاق في ذلك، ووضع قواعد وضوابط لتحكيم هذه الوحدة.
وفي الخاتمة نتناول الآثار والنتائج التي حققها الإسلام في هذا المجال، من خلال عرض مواصفات المجتمع الإنساني الفاضل، ومدى تحقيق الإسلام لهذه المواصفات.

پاورقيها:

1 ـ الإسراء: 70.
1 ـ البقرة: 30.
1 ـ البقرة: 31 ـ 33.
1 ـ الجاثية: 12 ـ 13.
1 ـ الحجر: 28 ـ 29.
1 ـ الرعد: 11.
1 ـ راجع علوم القرآن ـ التفسير في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) 307، للمؤلف.
1 ـ راجع علوم القرآن للمؤلف: 343، ط مجمع الفكر الإسلامي.
1 ـ في الصحيحة، عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام)، قال: «إن الله تبارك وتعالى، أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى ـ والله ـ ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه»، وفي حديث آخر معتبر عن أبي عبد الله قال: سمعته يقول: «ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة»، الكافي 1 /59 الحديث 1 و4.
1 ـ وسائل الشيعة 18 / 145، ب 13 صفات القاضي، ح 49، عن بصائر الدرجات.
1 ـ وهو ما يتم بحثه في أبحاث الدليل الشرعي أو العقلي من أبحاث أصول الفقه، راجع علم الأصول، الحلقة الأولى.
2 ـ إبراهيم: 32 ـ 33.
2 ـ الأعراف: 96.
2 ـ الأنبياء: 26، إشارة إلى قوله تعالى: ?وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون?.
2 ـ المصدر السابق.
2 ـ المصدر السابق: ح 47.
2 ـ النحل: 89.
2 ـ راجع محاضرات التفسير الموضوعي للشهيد الصدر.
2 ـ ص: 26.
2 ـ علوم القرآن 346، ط 3، عن المدرسة القرآنية، الدرس الثاني: 28، للشهيد الصدر قدس سره.
2 ـ وسائل الشيعة 18 / 140، ب 13 صفات القاضي، ح 35، عن كتاب التوحيد، و37، عن الخصال، وأحاديث عديدة أخرى.
3 ـ الأحزاب: 72.
3 ـ الحج: 65، النحل: 12 ـ 14، وغيرها.
3 ـ الروم: 41.
3 ـ المصدر السابق.
3 ـ يونس: 13 ـ 14.
4 ـ البقرة: 34.

مقالات مشابه

بازتأملي در مدلول آيات ناظر به آفرينش نخستين انسان

نام نشریهقرآن شناخت

نام نویسندهحمید آریان, مرادعلی شورگشتی

خلقت آدم و حوا در قرآن و تورات

نام نشریهبینات

نام نویسندهکیوان احسانی, زهرا محمدی

تحلیل انتقادی طبقه‌بندی تفاسیر و ارائة مدل مطلوب

نام نشریهپژوهش‌های قرآنی

نام نویسندهعلی اسعدی, محمد اسعدی, محمدکاظم شاکر

مروری بر کتاب تفسیر همگام با وحی

نام نشریهآینه پژوهش

نام نویسندهمحسن قمرزاده