لا زلنا نواصل بحث الآيات ذات الارتباط بالمباحث الاُصولية وقد تقدّم البحث عن مباحث القطع والظن . .
1 ـ قوله تعالي : « وما مِنْ دابّةٍ في الأرضِ ولا طائرٍ يطيرُ بجناحيهِ إلاّ اُممٌ أمثالُكُم ما فرَّطْنا في الكتابِ من شيءٍ ثمَّ إلي ربِّهم يُحشرونَ »( 1 ) .
لقد دلّت الجملة المعترضة ـ « ما فرّطنا في الكتاب من شيء ـ »علي نفي النقص عن الكتاب وأنّه لم يهمل شيئا ، فالكتاب تامّ كامل .
الأوّل : أن يراد بالكتاب كتاب التكوين أو اللوح المحفوظ ، فيكون المعني حينئذٍ أن كلّ مخلوقات اللّه مشمولة لعناية اللّه التي لم تترك شيئا سدي بل أخضعته للنظام بحيث ينال كل مخلوق ما يستحقه من كمال .
الثاني : أن يراد بالكتاب القرآن الكريم ، أي إنّ القرآن لم يدع شيئا له علاقة بهداية الناس إلاّ وبيّنه .
الثالث : أن يراد مطلق الكتاب الشامل لكلا المعنيين المتقدّمين ، بمعني أنّ اللّه سبحانه لا يفرّط فيما يكتب من شيء ، ففي كتاب التكوين فانّه يقضي ويقدّر لكل نوع ما يستحقه من كمال، وأمّا في كتابه الذي أوحاه إلي الناس بيّن كل ما يقتضيه أمر هدايتهم .
ومن الواضح أنّه بناء علي الاحتمالين الثاني والثالث تكون الآية الكريمة دالّة علي مرجعية القرآن الكريم وأنّه حاوٍ لكل ما يحتاج إليه الناس في طريق الهداية .
وهذه الاحتمالات الثلاثة وإن كانت في نفسها صحيحة إلاّ أنّه يمكن ترجيح ثانيها أو ثالثها ولو بمعونة القرائن المنفصلة ، منها ما ورد في الروايات من تفسير الآية بهما سيّما الثاني .
ثمّ إنّ شمولية القرآن للأحكام لا تعني ذكر كل الأحكام بخصوصياتها ، فقد يذكر الحكم أحيانا مفصّلاً واُخري بصورة كلية عامة وثالثة قد يذكر طرفا منه ويرجع في الباقي إلي الرسول الهادي الذي تكون هدايته جزء من الهداية القرآنية وفي طولها ؛ باعتبار أنّ القرآن هو الذي نصب النبي هاديا وأمر باتباعه وطاعته ، وهذه من جملة الاُمور اللازمة لهداية البشر بنظر القرآن نفسه ، فمن يطع الرسول فقد أطاع اللّه . وكذا الرجوع إلي أهل الذِّكر عليهمالسلام والسؤال منهم ؛ فإنّ الرجوع اليهم رجوع إلي القرآن بلا ريب .
2 ـ قوله تعالي : « ويومَ نبعثُ في كلّ اُمّةٍ شهيدا عليهم من أنفسِهم وجئْنا بكَ شهيدا علي هؤلاءِ ونزَّلْنا عليكَ الكتابَ تبيانا لكلّ شيءٍ وهديً ورحمةً وبشري للمسلمينَ »( 2 ) .
يدلّ المقطع الأخير من هذه الآية علي أنّ القرآن هو بيان لكلّ شيءٍ يتعلّق بأمر الهداية ممّا يحتاج إليه الناس في اهتدائهم من المعارف المتعلّقة بالمبدأ والمعاد والشرائع والأخلاق ، فيكون بذلك مصدرا يُرجَع إليه لأخذ الأحكام ، فقد تكفّل القرآن بيانها وتوضيحها ، فالقرآن من حيث هو لا غموض فيه ولا إبهام بحيث يفهمه كل من له فهم بالحدّ المتعارف ؛ فمرادات القرآن ومداليل آياته جليّة . فهذه الآية أكّدت مرجعية القرآن وشموله لكافّة الأحكام ، وأيضا أكّدت علي بيانيّة القرآن . وهذا الوصف مطلق ، فلا فرق بين ما يكون مستفادا من نصّ الآية وبين ما يكون مستفادا من ظهور الآية .
وبيانية القرآن ثابتة ـ مع قطع النظر عن هذه الآية ونحوها من الأدلّة اللفظية ـ وذلك باعتبار أنّ كل كتاب لابدّ وأن يتناسب مع الغرض الذي من أجله دوِّن ذلك الكتاب ، وكلّما كان كاتبه أعلي شأنا كان وفاء الكتاب بذلك الغرض أكمل وأتقن ، فلو كان غرض صاحب الكتاب تبيان الحقائق العلمية الهندسية استوجب ذلك أن يكون الكتاب معمّقا بأعمق درجة ، وأمّا إذا لم يكن الغرض ذلك بل الغرض هداية الانسان وإخراجه من الظلمات إلي النور وتربيته وتغذيته فكريا وروحيا وخلقيا ، فذلك يستلزم أن يكون الكتاب بيانا واضحا نورا هاديا ، لا مبهما ملغّزا .
هذا ، مضافا إلي أنّ لآيات الأحكام والتشريعات خصوصية ، وذلك باعتبار أنّها إنشاءات أوامر ونواهٍ ، وليست إخبارات عن المغيّبات أو عن اُمور اُخري قد يقتضي الحال إبهامها .
وأمّا الدقة والعمق في الملاكات وعدم وضوحها وكون فهمها مستعصيا علينا فهذا أمر لا ربط له بالأحكام والتشريعات نفسها .
وناقش بعض المحققين في هذه الآية بأنّ البيان تارة يراد به البيان المعهود من الكلام وهو إظهار المقاصد والمعاني من طريق الدلالة اللفظية . واُخري قد يراد به البيان الأعم ممّا يكون من طريق الدلالة اللفظية وغيرها ، فلعلّ هناك إشارات غير لفظية تكشف عن أسرار وخبايا لا سبيل للفهم المتعارف إليها . إذن فلا داعي لحصر البيان في المعني الأوّل .
والجواب : إن أريد من هذا الكلام نفي البيان عن القرآن كلاًّ أو بعضا من جهة الدلالة اللفظية ؛ وذلك لاحتمال وجود القرائن غير اللفظية الصارفة للمداليل اللفظية فهو واضح البطلان ؛ لما قدّمناه ، فإنّ القرآن الكريم حيث إنّه مجموعة ألفاظ فعندما يوصف بأنّه بيان يفهم منه أنّ ذلك يكون عن طريق الدلالة اللفظية ولا طريق آخر غيرها ، وبذلك افترق البيان القرآني عن البيان النبوي ؛ إذ أنّ النبي صلياللهعليهوآلهوسلم قد يبيّن الحكم عن طريق اللفظ أو عن طريق الفعل أو عن طريق التقرير .
نعم ، إن اُريد من ذلك أنّ النبي صلياللهعليهوآلهوسلم قد يلتفت إلي حقائق مرتبطة بوظيفته كرسول لا يستطيع غيره دركها من خلال بعض الرموز والاشارات اللفظية أو غير اللفظية والتي لا تعتبر دلالة لفظية وضعية ، فإنّ هذا علي تقدير قيام الدليل عليه لا ينفي كون القرآن واضحا وبيّنا بالنسبة إلينا بالمقدار الذي يرتبط بنا كمكلّفين ، ويكون هذا البيان القرآني حجة تنجيزا وتعذيرا علي كلّ مكلّف . فكأنّه توجد مرتبتان من البيان إحداهما متناسبة مع المكلّفين ، واُخري أرقي متناسبة مع النبي أو الولي . بيد أنّ ذلك لا يستفاد من هذه الآية البتة .
وليت شعري ما هو الداعي إلي إثارة الشبه والاحتمالات المستبعدة في قبال هذه الآية ونحوها من الآيات الواضحة الدلالة علي المطلوب غاية الوضوح ، وهل هناك تعبير أدلّ من مثل هذه الآية علي مرجعية القرآن وحجيّته وبيانه ؟ !
ولو فسحنا المجال للتشكيك في بيانيّة القرآن ومرجعيّته ، وهو الأساس فهل يبقي بعد ذلك من اعتبار للسنّة الشريفة التي اكتسبت شرعيّتها من القرآن نفسه ، وهل يبقي شيء من الدين بعد ذلك ؟ !
3 ـ قوله تعالي : « . . . أفتؤمنونَ ببعضِ الكتابِ وتكفرونَ ببعضٍ فما جزاءُ منْ يفعلُ ذلكَ منكم إلاّ خزيٌ في الحياةِ الدنيا ويومَ القيامةِ يردّونَ إلي أشدِّ العذابِ وما اللّهُ بغافلٍ عمّا تعملونَ »( 3 ) .
الآية واردة في خطاب بني إسرائيل وذمّهم علي تجزئتهم للدين ، فقد أخذوا بحكم الفدية فتراهم يمتثلون هذا الحكم في تخليص الأسري من الأسر ، في حين أنهم تركوا حكم القتل والإخراج من الديار فارتكبوا ذلك مع علمهم بأنّه حرام عليهم ، وهنا يعترض القرآن عليهم ، إذ أيّ فرق بين الحكمين ؟ ! فما لكم تطيعون في بعض وتعصون في بعض آخر مع انّ كلا الحكمين واردان في الكتاب ؟ ! فكأنّكم تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض . ومن الواضح أنّ أحكام اللّه لا تقبل التبعيض ، فإنّ ترك الأحكام كلاًّ أو بعضا معصية وسلوك غير منطقي وغير عقلائي ؛ فإنّ طاعة اللّه واجبة في كلّ حكم حكم ، ومعصية اللّه قبيحة مطلقا .
ويمكن أن يستفاد من هذه الكبري لزوم الأخذ بالكتاب كلّه ، وهذه الاستفادة تامّة وصحيحة سواء قلنا إنّ القاعدة المذكورة قاعدة تأسيسية أو إمضاء لأمر عقلائي وعرفي أو إنّها إرشادية ، فعلي كلّ التقادير تكون هذه القاعدة مقبولة ومرضيّة بنظر القرآن .
ويلزم الأخذ بالقرآن كلّه دون تقطيع سواء كان من أجل فهم ومعرفة مراداته أو عند أخذ الأحكام منه ، فإنّ الأخذ بالعام وترك المخصّص والأخذ بالمطلق وترك المقيّد ، وكذا الأخذ بالمتشابهات وترك المحكمات أو العكس كلّ ذلك يعني تجزئة وتبعيض القرآن . ونضيف أيضا أنّ هذه المخصصات والمقيّدات حتي لو وردت في السنة فيجب الأخذ بها ؛ لأنّ الأخذ بها أخذ بالقرآن الذي أعطي للنبي دورا في هداية الناس إلي اللّه لا علي نحو الشركة بل بنحو الطولية والرتبيّة .
4 ـ قوله تعالي : « هو الذي أنزلَ عليكَ الكتابَ منهُ آياتٌ محكماتٌ هنَّ اُمُّ الكتابِ واُخَرُ متشابهات فأمّا الذينَ في قلوبِهم زيغٌ فيتبعونَ ما تشابَه منهُ ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويلِهِ وما يعلمُ تأويلَه إلاّ اللّهُ والراسخونَ في العلمِ يقولونَ آمنّا بهِ كلٌّ من عندِ ربِّنا وما يذَّكرُ إلاّ اُولوا الألبابِ »( 4 ) .
فسّرت هذه الآية الكريمة بتفسيرين :
التفسير الأوّل : أنّ الآية تبيّن كيفية فهم القرآن وطريقة التعامل مع الآيات . حيث بيّنت طريقتين وأنّ الطريقة الثانية هي الصحيحة دون الاُولي .
أمّا الطريقة الاُولي فهي الأخذ بنوع خاص من الآيات وترك ما سواها ، وهو الأخذ بالمتشابه من دون الرجوع إلي المحكم . وهذه طريقة المنحرفين والسطحيين ومن في قلوبهم زيغ الذين يريدون فتنة الناس عن دينهم .
وأمّا الطريقة الثانية فالأخذ بكلّ آيات القرآن من دون تبعيض ، وهذا هو المنهج المنطقي الذي يتّبعه الراسخون في العلم والذين يؤمنون بالكتاب كلّه . وهذا التفسير للآية هو الصحيح .
التفسير الثاني : أنّ الآية تنهي عن اتباع الآيات المتشابهة ، وهذا النهي يشمل الظواهر أيضا ؛ فإنّ المحكم ما يكون نصّا في معني واحد لا غبار عليه ، بخلاف المتشابه وهو ما يكون له عدّة معان يشبه بعضها بعضا فيحار معها اللبيب ، وليس من الصحيح أن يحمل اللفظ علي معني دون آخر ما دام ثمة معان اُخري ربما تكون مرادة من اللفظ .
فإنّ المتشابه قد لوحظ فيه وجود معنيين متشابهين كل منهما له صلاحية لأن يكون مرادا للقرآن وإن كان أحدهما أقرب وأشدّ علقة باللفظ من الآخر .
وبناء علي ذلك ادّعي بعض العلماء انّه يستفاد من هذه الآية عدم حجّية ظواهر الآيات القرآنية لأنّها من المتشابه المنهي عنه بالآية . وقد نسب ذلك إلي الأخباريين في مقابل الاُصوليين القائلين بحجية الظواهر مطلقا كتابا كانت أو سنّة .
وقد أورد المحققون علي هذا الاستدلال مناقشات كثيرة ، منها :
ليس المراد بالتشابه هو التشابه المفهومي وعدم تعيّن المعني ، بل المراد هو التشابه بلحاظ عالم المصاديق والتطبيق ، بمعني أنّ هناك اُناسا منحرفين في قلوبهم زيغ فيتبعون الآيات التي لا تخلو مصاديقها من غموض وإبهام ، نحو استواء الرحمن علي العرش فانّه ليس لفظا متشابه المعني ، بل الابهام فيه ينشأ في مقام تصور المصداق المناسب له تعالي وما يؤول إليه المعني من المصداق المتحقق خارجا . فهؤلاء المنحرفون يعمدون إلي هذا الصنف من الآيات لتشويش الأذهان ابتغاء الفتنة . ويتركون الآيات المحكمة التي يسهل تصوّر مصاديقها وتطبيقها خارجا .
إنّ التشابه لا يشمل الظاهر ، وذلك لأنّ مجرّد قابلية اللفظ لأن يستعمل في كل من المعنيين لا يجعله متشابها إذا كان واضحا بيّنا في أحدهما ، بل التشابه يتحقق عندما تكون نسبة كل من المعنيين إلي اللفظ متساوية أو متقاربة ، وهذا لا يكون إلاّ في المجمل ولا يشمل الظاهر .
إنّ الآية لم تنه عن اتباع المتشابهات ولم ترد بلسان : « لا تتبع المتشابهات » ، بل نهت عن الاقتصار علي العمل بالمتشابهات فقط وقطع صلتها بالمحكمات رغم انها اُمّ الكتاب ؛ كما كان عمل المشاغبين في صدر الإسلام ، ويؤيده ما قيل من أنّ الآية نزلت في نصاري نجران الذين كانوا يثيرون الشبهات حول عيسي عليهالسلام ويتمسكون بالآيات المتشابهة فقط ويتركون المحكمات .
ومن الواضح عدم جواز الأخذ بالمتشابهات من دون مراجعة النصوص المحكمة ، وكذلك عدم جواز تبعيض القرآن والعمل ببعض الآيات دون بعض .
فتبيّن من ذلك كلّه أنّ الصحيح عدم دلالة الآية علي النهي عن العمل بحجية ظواهر الآيات الكريمة ، وإلاّ فإنّ التسليم بتلك الشبهة سيؤدي إلي تعطيل المصدر الأوّل للشريعة الغرّاء ، وهذا ما يتنافي مع الضرورة الدينية القطعية ، فقد وردت الأحاديث الكثيرة التي تضمّنت الاستدلال بظواهر الكتاب علي بعض الأحكام الشرعية حتي تحوّل ذلك إلي سيرة مستحكمة في المجتمع الاسلامي حيث بات ذلك من المسلّمات .
مضافا إلي منافاة تلك الشبهة لصريح القرآن نفسه بأنّ آياته إنّما نزلت بيانا وتبيانا وهدي ونورا وبلسان عربي مبين ، وكذلك منافاتها للروايات الكثيرة الآمرة بالتمسك بالكتاب والأخذ به والعمل بموجبه إلي غير ذلك .
( 1 ) الأنعام : 38 .
( 2 ) النحل : 89 .
( 3 ) البقرة : 85 .
( 4 ) النور : 59 .