الحمد لله رب العالمین ، والصلاة والسلام على رسوله الامین ، وآله الطیبین ، وصحبه المنتجبین...
وبعد ؛ ...
فالبحث هنا نأتی علیه من خلال :
أولا : المقدمة
ـ 1 ـ
إن لغتنا الرسالیة هی لغة حیة معطاءة ؛ ولیس بکثیر علیها إذا قلنا عنها : إنها تضاهی سائر اللغات العالمیة ، إن لم تکن ـ کما هو الواقع ـ السباقة والرائدة من بینها.
لغتنا ؛ وارید بها تلک العربیة المبینة التی تخصنا نحن المسلمین قاطبة ، المجتمعین على رفع رایة ، لا إله إلا الله ، محمد رسول الله.
نعم ، لغتنا ، وهی کلمة الرب إلى جمیع عباده ؛ فی قرآنه المبین وسُنّته الشریفة ، والروائع من نهج أئمّة أهل بیت رسوله الأمین ، وصحبهم الصلحاء المتقین.
اللغة النظامیة الانسانیة ؛ الشاملة شمول وعموم ودقة ونظامیة وکونیة الدین الحنیف ، الذی یسقی الحیاة حیاة سعیدة ، بفیض کؤوسه ودیمومة دوالیه.
ـ 2 ـ
وهی بعد کذلک ، رموز الفطرة ، وإشارات الخلجات النفسیة ، فعبارات الروابط الاجتماعیة ، إلى کونها مصطلحات فی مختلف مجالات العلاقات الدولیة ؛ بل ، وإلى شتى الشؤون العالمیة.
هی تاریخ حکایة العقیدة والعاطفة ، الروح والجسد ، فی سلوکاتها المرئیة وغیر المَرئیة ؛ صائرةً بین الخوف والرجاء ، من الله وإلى الله ؛ ثقة واطمئنانا ؛ حُبّاً ووفاء ، التزاما وتضحیة ؛ سعادة وخلودا.
هی قصة الحضارة والمدنیة ، ومفردات الصیاغة القانونیة ، فی جمیع المیادین ، وسائر التطبیقات.
بل ، هی حروف التربیة المسؤولة ، وسطور الاقتصاد المتکافىء ، وتعابیر السیاسة الدعائیة ، وغیرها من بقیة الظواهر الحیاتیة.
ـ 3 ـ
ألیست هی لغة الانسان الرسالی ؛ اللغة الاممیة الخالدة خلود شرائع الاسلام ، الهدیة الناطقة بعظمة مهدیها ، والمنزلة إلى خلیفته فی الارض ، الذی یفترض فیه أن یکون بمستوى آمالها ؛ ثم له بعد أن یبدع بجدید المعانی ، على ضوء من مواصفاتها ومجازاتها...
ألیست هی لسان حال الثوار ، إسماعیل وهود وصالح ، محمد وخدیجة ، علی وفاطمة ، سمیة وعمار ، زینب والحسین ؟ !
وهل من شک ، فی أنها هی هی أصوات سائر المناضلین الاحرار ؛ المدویة من أجل : إحیاء المثل والقیم ، وتحقیق کرامة بنی الانسان.
ـ 4 ـ
فیا للغة القرآن من لغة بناءة ـ إن هی ترکت کما ارید لها ـ : وفیة بشفاء الصدور ، ثریة بإعمار القلوب ، ندیة بترانیم الحب ، زخارة بأسباب الوحدة والتوحید ، حنیة بتطبیب النفوس.
وما أروعها من وسیلة بیان ،...
ما أدراک بها من وسیلة ، الضرورة تقضی بلزوم فهمها ومتابعتها ؛ ثم وجوب اتحاد النطق تحت لوائها.
ولکن ، ینبغی أن یفهم ومنذ البدایة ؛ أن لا تنافی فی الوقت نفسه ، بین وجوب الالتزام بها ، ووجوب مراعاة الخصوصیات الاقلیمیة والقومیة وغیرهما ، لتلک اللغات الانسانیة المتوارثة من عداها ، طالما لاتتعارض ومبادئ ، خاتمة الادیان.
وکیف لا یجب احترام تلک المتوارثة ؛ وهذا القرآن الکریم نفسه بین أیدینا یعد التاریخ الصادق ، لما جاء فیه ـ على قول لیس بالخفی ـ من نماذجها.
أجل ، بورکت لغتنا ، نحن المسلمین کل المسلمین ، شعوباً وقبائل ، عربا وغیر عرب ، ما کان هناک مکان ، وأنى بقی فی البین زمان.
ـ 5 ـ
وأما المنهج الذی سوف نتبعه فی فهرسة مواد هذا المعجم ؛ فهو باختصار : الاخذ بالترتیب المزدوج : الاشتقاقیّ منه ، والهیئتی.
هو الترتیب الاتی على کلا الحسنین ؛ بأن یفهرس المفردات لاجل دراستها ، ولکن بحسب جذور أسرها الاشتقاقیة ، وبذلک یحفظ للکلمة کینونیتها العائلیة.
ویفهرس الهیئات مجرّدة ، محالة ـ کما هی ـ على موادّها ، بحسب صورها الظاهریة ، وبذلک یتیسّر استخراجها ومعرفة اُصولها بنقلة واحدة ، وخاصة تلک الغربیة الاشتقاق منها ، کماهو الحال مثلا فی طائفة من مفردات افتعل ، اضطرب واضطهد...
ـ 6 ـ
وأما الکلمة المنتخبة ، التی سنخصص لها حلقتنا هذه ؛ فهی : أرائک.
من حیث اشتقاقها ؛ باعتبارها مشتقة ، مع تحدید مادتها ، حسب موازین الصرف والصرفیین.
ومن حیث معانیها فی اللغة ، ثم فی القرآن والحدیث ؛ ومن ثم الکیفیة فی توحید تلک المعانی.
وهکذا ، إلى کل ما هو متیسر فی مقدورنا من بحث جوانبها ، وبحدود اطلاعنا من مصادرها ؛ والله من وراء القصد.
ونأتی علیها من خلال الحقول الاتیة :
حیث قد وردت فی سورة : أ. الکهف ، آیة : 31 ، ب. یس ، آیة : 56.
ج. الأنسان ، آیة : 13 ، د . المطففین ، آیة 23 ، 35
حیث لم ترد مع الارائک ، من بقیة المشتقات من اُسرتها ؛ غیرها.
کذلک ؛ فإن لفظ الارائک ، قد ورد فی القرآن الکریم خمس مرات فقط ؛ وهی جمیعا فی وصف أهل الجنة (1).
ـ 1 ـ
هکذا وردت بصیغة الجمع ، لمفردة « أریکة » (2) ؛ وهی التی على زنة
فعلیة ، مؤنث فعیل ؛ من الفعل : أرک بالمکان یأرک : أقام به (3).
وقد تجمع : على : اُرک ؛ کما یقال : سفینة وسفائن وسُفنُ (4) ؛ وقد تجمع أیضا على : أریک (5).
ـ 2 ـ
إما لکونها فی الارض ، متخذة من أراک. وهو شجرة.
أو لکونها مکانا للاقامة ؛ من قولهم : أرک بالمکان اروکاً ؛ وأصل الاُروک الإقامة على رعی الأراک ، ثم تُجُوز به فی غیره من الاقامات (6).
وهی کما یلی :
أولا : الوسادة بلحاظ الاریکة ؛ والوسائد بلحاظ الأرائک (7).
وقیل : الطنفسة أو الوسادة ، وفُسّرت الطِنفَسَةُ بـ : البِساط (8).
ثانیاً : کلُّ ما اتکىء علیه (9).
أو بتعبیر : کل ما یُتّکأ علیِه ، مِن مِسوَرة وغیرها (10).
أو بتعبیر : کل ما اتکئ علیه ، من سریر أو فراش أو مِنَصَّة ؛ وفی الحدیث :
« ألا هل عسى رجل یبلغه الحدیث عنی ، وهو متکىء على أریکته ، فیقول : بیننا وبینکم کتاب الله » (11).
ثالثا : السریر ، بلحاظ الاریکة ؛ والاسرة ، والاسرة ، بلحاظ الارائک (12).
قال ذو الرمة :
خدود جفت فی السیر حتى کأنما * یباشرن بالمعزاء مس الأرائک (13)
وجفت ، أی : خَشُنَت وصَلُبَت.
والمعزاء : الارض الغلیظة ، فیها حَصَى (14).
یقول : من شدة الحاجة إلى النوم ؛ یرون الارض الصلبة ذات الحجارة مثل الفرش على الارائک ـ وهی : السرر ـ ؛ ویروى : « خدودا » ، على أنه مفعول لفعل فی البیت قبله (15).
رابعاً : مقعد منجد یجلس علیه ، ویکون محوطا بالستائر والزینة (16).
خامساً : الفرش فی الحجال.
أو بتعبیر : الفرش فوق الاسرة (17).
سادساً :
أ ـ سریر فی حجلة.
أو بتعبیر : السریر فی الحجلة ؛ أو : الاسرة فی الحجال ؛ أو : سرر فی الحجال ؛ أو : السریر فی الحجلة ؛ من دونه ستر ؛ ولا یسمى منفردا أریکة (18).
یقول ابن فارس : سمعت علی بن إبراهیم القطان ، یقول : سمعت ثعلبا ، یقول :
الاریکة لا تکون إلا سریرا منجدا فی قبة ، علیه شواره ونجده (19).
ب ـ الحجال فیها الاسرة (20).
ج ـ وهذه التعابیر ، فی« أ » و « ب » ، کلها تؤول إلى مؤدى واحد ؛ تتحد فیه : فی وسطه « فی » ؛ ثم تتوزع بعد ذلک ، لتتبادل المراکز فی طرفیه ، فی مقومیه « السریر » و « الحجلة ».
وهذه المداعبة فی الالفاظ ـ إن صح مثل هذا القول ـ ؛ ولعلها من قبیل کون الحرکة والاتجاه :
تارة من السریر ـ وهو الداخل فی ـ ، یمشی برجلیه إلى الحجلة ـ وهی المدخول ـ فیها ـ وتارة من الحجلة ـ وهی المدخول فیها ـ تقبل بوجهها على السریر فی مکانه ، ـ فتحتضنه لیدخل فیها.
بل ، لعله من حیث التقدیم والتأخیر ؛ من قبیل ما فی التعبیر القرآنی ـ وما أروعه ـ :
«... متکئین على سُرٌر مصفوفة... » ؛ فی سورة الطور ؛ آیة : 20.
«... سررا علیها یتکئون... » ، فی سورة الزخرف ؛ آیة : 34.
نعم ، فبورکت من حجلة مسّراتٍ ، على اسم الله ، وباسمِ الله ، وفی حُبّ الله.
نعم ؛ وعندها یحلو القولُ : أریکة ویا لک من أریکة ، فی شرعة التقى والنُهى.
د ـ وأما الحجلة ـ بالتحریک ـ ؛ فهی : « بیت کالقبة یستر بالثیاب ، وتکون له أزرارُ کبار ؛ وتُجمَعُ على حِجال ».
وأما الاعشى ، فقد أنشد :
بین الرواق وجانب من سترها * منها وبین أریکــة الانضــاد
أی : السریر فی الحجلة (21).
والانضاد : جمع نضد : وهو ما یوضع علیه الثیاب (22).
سابعاً :
أ ـ الحجال على السرر (23).
یقول ابن فارس : « الاریکة : الحجلة على السریر ، لا تکون إلا کذلک » (24).
ب ـ السُرُر علیها الحجال (25).
ج ـ وأغلب الظن : أن التوجیه هنا ، لما بین تعبیری « أ » و « ب » ، من تقدیم وتأخیر ؛ هو من قبیل ما ذکر ، فی رقم « سادساً » السابق.
ولعله یراد به فی« أ » : جلب الانتباه إلى الحجال ، لحکمة اقتضته مهمة الکاتب.
ولعله یراد به فی « ب » : لفت النظر إلى السرر ، لغایة فی نفس یعقوب ، کما یقولون.
د ـ وأما الطرفة بین تعبیر : « السرر فی الحجال » ؛ وتعبیر « الحجال على السرر » فیما أحسب...
نعم ، فالامر فیما یبدو من قبیل : الفرق بین البناء العمودی ، والبناء الافقی ، من قبیل : الشقق فی عمارة ، والبیوت متجاورة.
بلى ، هو من قبیل : داخل ومدخول فیه ، فی خط افقی.
وفوق وتحت ، فی خط عمودی.
هـ ـ ثم إن الشیخ الطوسی ـ رحمه الله ـ قال : « الحجلة ؛ کالقبة على الاسرة » (26).
بینما الشیخ الثعالبی یقول : « ولا یقال : أریکة ؛ إلا إذا کان علیها حجلة ؛ وإلا ، فهی سریر » (27).
کما قال نفسه أیضا : « فصل فی السریر... ؛ فإذا کان للعروس وعلیه حجلة ، فهو أریکة » (28).
ـ 1 ـ
قیل : إن لفظ الارائک من کلام أهل الیمن ؛ حیث نقل عن الحسن البصری قوله : « کنا لا ندری ما الارائک ، حتى لقینا رجلا من أهل الیمن ، فأخبرنا : أن الاریکة عندهم : الحجلة فیها سریر » (29).
ـ 2 ـ
وذکر السیوطی : أن ابن الجوزی حکى فی کتابه « فنون الافنان فی علوم القرآن » : ان الارائک هی السرور بالحبشیة.
ونقول : إنه لیس فی حبشیة شیء من ذلک (30).
ـ3ـ
وقال یعقوب بکر : ویزعم جفری : ص 53 : أن لفظ الارائک من أصل إیرانی « مفقود ».
ولکن ؛ « مادة أرک » ، التی اشتقت منها « أریکة » ، « عربیة سامیة » (31).
ـ 4 ـ
وأقول : هی عربیة.
وذلک ، لوجود جذرها واشتقاقاتها ومصادیق خارجیة لهیئاتها ومعانیها ، کما أسلفنا فی ذکر البعض منها.
علما ؛ بأن قولنا هذا ، لا یتنافى وکونها مستعملة یمانیة وحبشیة ؛ وحتى فارسیة ـ هذا على فرض صحة ما استدل به علیها ـ.
حیث أن هجرة اللغات وتزاوجها ، هو أمر واقع منذ القدم فی التاریخ ، وحتى یومنا الحاضر.
کما أن له من واقعنا المعاصر ، أکثر من مثالٍ ومثالٍ ومثال.
ـ 5 ـ
هذا ، إذا لم نذهب مع من یقول : إن اللغة العربیة منشأ اللغات الحیة ، کل اللغات.
وأما على مقولة من یقول : إن إسماعیل وإسحاق ، رجلی اللغتین ـ والحدیث هنا عنهما ـ العربیة والفارسیة ؛ هما ولدا الخلیل (علیهم السلام) وإن خلیل الله نبی عربی ؛ فالمسألة عندئذ بمثل هذا الرجوع التاریخی محلولة.
ـ 6 ـ
وبالمناسبة ، فإن فی النفس شیء من مقولة البصری ـ إن صح النقل عنه ـ : « کنا لا ندری... ». حیث أنی أعتقد : أن الدرایة فی لغة القرآن ، وروایة کل ما یمت لها بصلة ؛ حصلت تامة شاملة ؛ فی زمن الرسول نفسه (صلى الله علیه وآله وسلم).
نعم ، کونها غامت ، أو حصل لها ما یحجبها ، فتلک مسألة اخرى.
ولکن ، من جهة ثانیة ، الامر جد بسیط وسهل ، إن هو بُحث عنه عند الاخذین بحجزة من لا ینطق عن الهوى ، وخاصة عند أئمّة العصمة (علیهم السلام).
وهم جمیعا بلا شک موجودون ؛ والبصری ـ وأمثاله ـ لا یخفى علیه ذلک ، إن صدق ما نسب إلیه.
قال ابن فارس : « الهمزة والراء والکاف : أصلان ؛ عنهما یتفرع المسائل :
أحدهما : شجر
والاخر : الاقامة » (32).
وقال أیضا : « ... الاصل الثانی : الاقامة ؛ حدثنی ابن البستی ، عن ابن مسبح ، عن أبی حنیفة ، قال :
جعل الکسائی : الابل الاراکیة ؛ من الاروک ، وهو : الاقامة.
قال أبو حنیفة : ولیس هذا مأخوذاً من لفظ الاراک ، ولا دالا على أنها مقیمة فی الاراک خاصة ، بل ، هذا لکل شیء ، حتى فی مُقام الرجل فی بیته ؛ ( یقال : منه « أرک یأرک ویأرک اُروکا ؛ وقال کُثیّر فی وصف الظُعنُ :
وفوق جمال الحی بیض کأنها * على الرقم أرآم الاثیل الاوارک
والدلیل على صحة ما قاله أبوحنیفة ؛ تسمیتهم السریر فی الحجلة : أریکة » (33).
قال الراغب : « وأصلُ الاُروک : الاقامة على رعی الأراک ؛ ثم تُجُوَزَ بهِ فی غیره من الاقامات » (34).
قال الدکتور : وتدل مادة « أرک » على معنى الطول ، فی کثیر من اللغات السامیة ، ونلحظ هذا المعنى فی هذا الجزء من مادة « أرک » کما أوردها صاحب اللسان : « أرک الرجل بالمکان یأرک ویأرک اروکا ، وأرک أرکا ؛ کلاهما : أقام به.
وأرک الامر فی عُنقُه : ألزمهُ إیاه » ، فلعل معنى الطول لوحظ فی الاریکة بالمعنى المذکور ، فهی مبسوطة ممدودة (35).
کما یعقب على تعلیل الراغب الاصفهانی : «... أو لکونها مکانا للاقامة » ؛ یعقب بقوله : « والاقامة کما قلنا فیها معنى الطول » (36).
وأقول : إنی وإن کنت أتفق والاستاذ الدکتور ، من حیث التأصیل إلى المعنى الواحد.
بید أنی أعتقد : أن المصیر إلى « إقامة » ، هو أدلّ معنى وأکثر واقعیةً وأشدّ جاذبیة وحیویة.
ناهیک عن ضرورة مراعاة المفهومیة ، فی الصیرورة إلى معنى الطول ؛ حیث هی تتّسع فی أبعادها للطول وغیره ، کما سنرى.
بل ، وهذا البعد یُفهم کذلک من نفس نصّ الدکتور ؛ حیث یقول : « والاقامة کما قلنا فیها معنى الطول ».
قال الاستاذ : « والذی یظهر من هذه الکلمات ، ومن موارد استعمال هذه المادة :
أن الاصل الواحد فیها : هو الاقامة والسکون ؛ والاریکة ـ فعیلة ـ : ما یقام ویهیأ ؛ ـ کالفریضة : لما یُفرض من الحکم والصدقة ؛ والسکینة : لما یُسکَن من الوقار والطمأنینة ؛ والحدیقة : لما یطاف ویحاط.
ومن هذا المعنى ؛ ما یقام ویهیأ ویزین للعروس ، حتى تقوم فیها ما کانت عروساً.
فهذا المعنى یشمل مجموع ما یهیأ بهذا المنظور ؛ من السریر والفرش والکرسی والبساط والستر ؛ ویُعَبّر عنها بالحَجَلة ؛ فتخصیصُ الاریکة بالسریر أو بالبساط أو الفراش أو غیرها ، غیر وجیه.
ولا یبعد أن یکون الاراک : وهو الشجر الذی یُستاکُ بفروعه وأطیب ما رعته الماشیة ، أیضا مأخوذاً من هذا المعنى.
فاللفظ فی الاصل ؛ کان صفة على وزن جبان.
أو مصدرا ؛ ومعناه : المقیم الساکن ؛ باعتبار کون الشجرة خضراء ناعمة ، ـ کثیرة الورق والاغصان ؛ أو باعتبار إقامة الناس عندها لاتخاذ المساویک ، والماشیة ـ للرعی ؛ فهو بمعنىالمفعول » (37).
وحیث أن الصیاغة فارسیة بعض الشیء ، فی نص الاستاذ المصطفوی ؛ فلذا جاء کلامه مغلقا إلى حد ما ، ...
ذلک أن عبارة : « هو الاقامة والسکون » ؛ یبدو من الافصح أن تکون « الاقامة والسکنى ».
وعبارة : « حتى تقوم فیها » ؛ تبدل إلى : « حتى تقوم فیه ».
وعبارة : « بهذا المنظور » ؛ تبدل إلى : « بهذا المنظار ».
وعبارة : « غیر وجیه » ، تبدل إلى : « ترجیح من غیر مرجح ».
وعبارة « وأطیب ما رعته الماشیة » ؛ إلى : « وهو أطیب ما رعته الماشیة ».
***
وأستعرضه من خلال ما یأتی :
ـ 1 ـ
ومن البدایة ؛ حیث المبحوث عنه :
أصلان ؛ کما هو الحال عند ابن فارس ؛ والذی هو بحدود اطلاعی ـ : الرائد لفکرة تأصیل المفردات ، على مستوى معجمی :
وأصل واحد ؛ کما یستشف من کلام الدکتور یعقوب بکر ، وإن کان بمعنى الطول فیما یرى.
وأصل واحد ؛ کما هو الحال عند المصطفوی ، والذی هو ـ بحدود اطلاعی أیضا ـ أول من یوحد بین ذینک الاصلین ، المنقولین عن ابن فارس.
وحقیقة ومجاز ؛ کما یفهم من قول الراغب الاصفهانی ، باعتبار : أن الاقامة هی الاصل ، وما عداه تُجُوَّزَ به.
هکذا یبدو.
ـ 2 ـ
ویبدو لی : أن الوسط ؛ وهو الذی یذهب إلى کون الاصل واحدا ؛ هو الاضبط.
کما وأنه بتعبیر آخر : یرادف الحقیقة.
ـ 3 ـ
نعم ، الحقیقة تکمن فی البدایة ، وهی الاصل.
نعم ، تبدأ من ـِـُ : أرک اروکا.... ، فی معنى : الاقامة.
ثم صارت إلى المشتقات...
ثم تجسدت شعارا فی الشجر الاراک ، تحمل حروف الفعل ، الشجر ذی المواصفات المعینة : باعتباره عاملا مساعدا ومشجعا على السکنى والاستقرار ولو وقتیا.
وذلک ، نظرا لاهمیته الخاصة ، فی سکن الانسان ، وانتفاعه منه صحیاً ومعیشیاً ؛ وبالخصوص ، فی وسطٍ صحراوی قاحل ، بساطُه الرمضاء ، وضلاله الشمس المحرقة ، ونسیمه السموم اللاهبة.
أجل ، تکون فیه مثل هذه الشجرة المسواک ، الوارفة الضلال نسبیا ، ما أعزه وأثمنه من مسکن یقام فیه ، طلبا للراحة ، ومأکلا للراحلة.
وهل یقوى البدوی فی صحرائه على الاقامة ، فی غیر الاراک ، وفی أرائک الاراک ؟!
ـ 4 ـ
وهکذا انتقلت عدوى الاقامة ؛ من فعل الاراک ، إلى شجر الاراک ، إلى کل أریکة یستریح إلیها الانسان ؛ کل حسب ظروفه المادیة ، ومقوماته الحضاریة ، وعاداته البلدیة.
فأریکة الفقیر غیر أریکة متوسط الحال ، وهی عند متوسط الحال غیرها عند الثری.
ثم هی فی الصحراء غیرها فی الریف ، وفی الریف غیرها فی المدینة ؛ بل ، هی المدن ذاتها تتفاوت فی أرائکها.
ناهیک عن دور الذوق ، وبلهنیة العیش ، ونفس ساکن الاریک فی إقبال الدنیا علیه.... ، کل له مدخلیته فی التنویع ، والتزویق ، والتجمیل.
فأریکة المحبوب غیر أریکة السلطان.
وأریکة التقی غیر أریکة الشیطان.
وأریکة الجائع غیر أریکة الشبعان.
وأریکة الاراک غیر أریکة الارضین « ما بین صنعاء إلى أیلة وما بین عدن إلى الجابیة » (38) فی تراث الاقدمین.
وأریکة الارضین غیر أریکة جنان الخالدین ؛ فتلک لئن کانت مصنوعة ـ وربما کان أصل سریرها من الاراک ـ من الخشب والفرش والثیاب...
فإن هذه المعدة للمؤمنین المتقین ، معمولة من الذهب ؛ وهی مکللة بالدّر والیاقوت...(39).
ـ 5 ـ
لیس هذا فقط ؛ مصادیق حسیة ومعنویة ، على تنویع الارائک ، بعد استفادة معنى الاقامة منها.
وإنما الاقامة تستفاد من نفس الصیغة ؛ حیث أن صیغة فعیل ، هی واحدة من الصفات التی استعملتها العرب ، وأقرها القرآن الکریم ، وأنها تعنی فیما تعنی : الدلالة على ثبوت النسبة.
طبعا ، الاقامة المستفادة هنا هی : الاقامة المکانیة.
ـ 6 ـ
وهکذا نعود إلى عالم المعانی.
فبلحاظ الوسادة والفرش والسریر ؛ فإطلاق الاریکة علیها ، من باب إطلاق الکل على الجزء.
وبلحاظ « السریر فی الحجلة » فإن إطلاق الاریکة علیها ؛ إنما هو من حیث کون العلاقة بین « السریر » و « الحجلة » هی علاقة داخل ومدخول فیه.
وبلحاظ « الحجلة على السریر » ، فإن إطلاق الاریکة علیها ، إنما هو من حیث کون العلاقة بین « الحجلة » و « السریر » ، هی علاقة فوق وتحت.
ـ 7 ـ
ثم هی الاریکة ؛ إن هی نظر إلیها ، بلحاظ فعل الاروک ، الذی استعمل فی إرادة الاقامة حقیقة.
فهی من قبیل المجاز « المحقق » ، إن جاز مثل هذا التعبیر ؛ بمعنى : أنها صیرت حقیقة ، بعد ما کانت أساسا مجازا ، حیث هی أحد مصادیق طیب الاقامة.
وعلیه ؛ فالفرق بین أریکة المجاز المحقق ، وفعل اروک الاقامة ؛ إنما هو من قبیل الفرق بین المفهوم والمصداق ، کما هو متعارف بین الاصولیین والمناطقة.
لیس هذا فقط ؛ وإنما وصل الحال عند من یعیش عیشة الارائک ، أن اضرب عنده عن ذلک المعنى المجازی ونسی ؛ بل ، تسنم مرتبة الحقیقی ؛ بینما ذلک الفعل الحقیقی ، تسافل مع الایام عن واقعه الاصلی ، لیعیش غریبا فی ذمة التراث.
ـ 8 ـ
وأما المعنى المجازی ، فی أرائک القرآن الکریم ، تلک التی اعدت للمتقین ، فهو الذی سیصار به إلى حقیقة الحقیقة.
وهذا هو بیت القصید ؛ حیث یرکز کتاب الله ، على ذلک الحلم ، الذی سیکون حقیقة ، فتکون الارائک حیالها :
أرائک ؛ نعم الثواب...
أرائک ؛ لم شمل الاحبة...
أرائک ؛ نظرة النعیم...
أرائک ؛ لاشمس ولا زمهریر...
أرائک ، استعراض التثویب...
بل ، تلک هی الارائک المطمح ؛ والتی تتصاغر عندها أرائک الملوک وأرباب الملوک وحفدة الملوک ، ومن تشبه بهم...
وتنکسف قبالها : کل الالوان المبهرجة ، والاضواء المزیفة ، کل ما یمت إلى هذه الحیاة ـ أعنی غیر المشروعة ـ الدنیا بصلة.
فتستریح عندها الاوردة المذبوحة ظلما ، والقلوب المتعبة قسراً ، والکرامات المهدورة تجبّراً ، والاعصاب المرهقة عدواً.
وإنما هی ظلال ونسائم وأحادیث الحبیب.
وعندها یحلو وصل الحبیب ، حبیب الرحمن.
فتحقق کلمات السلام.
فکل الوجود یصفق لارائک السلام ویقول :
یا سَلام !
للبحث صلة...
(1) ینظر : دراسات مقارنة فی المعجم العربی : 18 ، تألیف الدکتور یعقوب بکر ، جامعة بیروت العربیة ، سنة 1970 م.
(2) ینظر : معجم الفاظ القرآن الکریم : م 1 ص 36 .
(3) ینظر : معجم الالفاظ والاعلام القرآنیة : ص36 ، ومجمل اللغة : 1|181 ، وأساس البلاغة : ص 5 .
(4) ینظر : التبیان : 8|468 ، والجامع لاحکام القرآن ـ تفسیر القرطبی ـ : 15|44.
(5) ینظر : دراسات مقارنة فی المعجم العربی : ص 18.
(6) معجم مفردات ألفاظ القرآن ـ مفردات الراغب الاصفهانی ـ : ص 12 ؛ وینظر : التحقیق فی کلمات القرآن ـ الکریم : 1|59 ، وفیه : « ... من الاوقات » ، وهو تصحیف.
(7) ینظر : التبیان : 8|468 ، ومجمع البیان : 8|429.
(8) التحقیق فی کلمات القرآن الکریم : 1|58 ـ 59.
(9) الغریبین للهروی : 1|40 ، ومجمع البیان : 8|429.
(10) التبیان : 10|213 ، ومجمع البیان : 10|410 ، والمسورة : التی یتکأ علیها ، کما فی فقه اللغة وسر العربیة ـ للثعالبی ـ : ص 249 .
(11) النهایة فی غریب الحدیث والاثر : م 1 ص 40 ؛ وینظر : معجم ألفاظ القرآن الکریم : م 1 ص 36.
(12) التبیان : 7|40.
(13) المصدر نفسه : 7|40 ، و 8|468 ، وینظر : دیوان ذی الرمة : ص 442 ، ومجازالقرآن : 1|401 ، وتفسیر ـ الطبری : 15|148 ، ومجمع البیان : 6|466.
(14) التقفیة فی اللغة : ص 46.
(15) الجامع لاحکام القرآن : م 10 ح 19 ص137 (الهامش).
(16) معجم الالفاظ والاعلام القرآنیة : ص 36.
(17) ینظر : التبیان : 7|40 ، ومجمع البیان : 10|410 ، والجامع لاحکام القرآن : م 5 ح 10 ص 398.
(18) ینظر : معجم مقاییس اللغة : 1|84 ، والغریبین : 1|40 ، والتبیان ، 7|40 ، و 10|213 ، والنهایة : 1|40
(19) مجمل اللغة : 1|181 ، وینظر : الصاحبی فی فقه اللغة : ص 98.
(20) مجمع البیان : 10|410.
(21) النهایة : 1|346 ؛ وفی دیوان الاعشى ، القصیدة 16 ، البیت الرابع.
إلا أنه ینبغی أن یعلم : أن المطبوع فی کلا المصدرین : «.. من سیرها منها ».
وهو تصحیف ، قد تنبه له الدکتور یعقوب بکر ؛ حیث قال فی کتابه « دراسات مقارنة فی المعجم العربی » ص 19 :
« الرواق : مقدم البیت. الانضاد : جمع نضد : وهو ما نضد من متاع : أی ما جعل بعضه فوق بعض. سترها : ـ ستر الحبیبة. فیها : فی الخیمة.
وفی المطبوع : (من سیرها منها) ، وقد أصلحناه کما ترى ».
ینظر : التبیان : 7|40 ، ودیوان الاعشیین ـ طبع بیانه ـ : ص 344 ، وتفسیر الطبری : 15|148 ، ومجاز القرآن : 1|401.
(22) ینظر : فقه اللغة وسر العربیة ـ طبع البابی الحلبی ـ : ب 23 ف 18 ص 250 ، والنهایة فی غریب الحدیث والاثر : 5|71 ، ومعجم مفردات ألفاظ القرآن : ص 517.
(23) التبیان : 8|468.
(24) مجمل اللغة : 1|181.
(25) مجمع البیان : 8|429 .
(26) التبیان : 10|302.
(27) فقه اللغة وسر العربیة : ب 3 ق 1 ص 50.
(28) المصدر نفسه : ب 23 ف 18 ص 250.
(29) الصاحبی ـ طبعه الشویمی بیروت 1964 م ـ : ص 58.
(30) ینظر : الاتقان فی علوم القرآن : 1|137.
(31) دراسات مقارنة فی المعجم العربی : ص 19.
(32) معجم مقاییس اللغة : م 1 ص 83.
(33) المصدر نفسه : م 1 ص 84 .
(34) معجم مفردات ألفاظ القرآن : ص 12.
(35) دراسات مقارنة فی المعجم العربی : ص 19.
(36) المصدر نفسه .
(37) التحقیق فی کلمات القرآن الکریم : م 1 ص 59 ـ 60 .
(38) الجامع لاحکام القرآن : م 5 ح 10 ص 398
(39) ینظر : المصدر السابق نفسه ، والتبیان : 10|302 .