مقابله صحفیه
مقابله صحفیه للدکتور حسن عبدی پور مع سماحة الشيخ الدکتور محمد علوان اللواتی
مقابله صحفیه للدکتور حسن عبدی پور مع سماحة الشيخ الدکتور محمد علوان اللواتی باحث في علوم القرآن فی عمان حول المرجعیه العلمیه للقرآن فی قضایا التشریع
المقدمة :
من المجمع عليه بين علماء المسلمين أن القرآن الكريم هو المصدر الأول
للتشريع في الإسلام .
إلا أن التحقيق في هذه القضية يكشف عن أن القرآن الكريم ليس بصدد التشريع
للأحكام الفقهية ، و لا يتعرض لتلك الأحكام إلا عرضا ، خدمة لغرضه الأصلي ألا و هو
الهداية .
و هذا ما يتولى هذا البحث بيانه بتوفيق الله سبحانه ..
لا شك في أن القرآن الكريم صريح و واضح بأن الهدف من إنزاله على النبي
الأكرم (ص) هو هداية الناس إلى الصراط المستقيم و إخراجهم من الظلمات إلى النور ..
و قد نطقت بذلك جملة من الآيات الكريمة ، منها :
{ألم . ذلك
الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}(البقرة1-2)
{هذا بصائر للناس
وهدى ورحمة لقوم يوقنون}(الجاثية/20)
{قل أوحي إلي أنه
استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا . يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن
نشرك بربنا أحدا}(الجن1-2)
{ولو جعلناه
قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء
والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان
بعيد}(فصلت/44)
{الم . تلك آيات
الكتاب الحكيم . هدى ورحمة للمحسنين}(لقمان1-3)
{فلما جاءهم الحق
من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل
قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون . قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى
منهما أتبعه إن كنتم صادقين}(القصص48-49)
{يا أهل الكتاب
قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم
من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات
إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}(المائدة15-16)
{رسولا يتلو
عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور
ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد
أحسن الله له رزقا}(الطلاق/11)
{هو الذي ينزل
على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف
رحيم}(الحديد/9)
{الر كتاب
أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز
الحميد}(إبراهيم/1)
و من الطبيعي أن يشتمل الإرشاد و الهداية على كثير من الأمثلة الحية التي
يلامسها الإنسان في واقع حياته ، لتصبح تطبيقات تساعد الإنسان على استيعاب الفكرة
بل و هضمها و تقبلها و من تطبيقها ، و لولا ذلك لصار الإرشاد مجرد نظريات في أبراج
عاجية لا تلامس الواقع و من ثم تعجز عن تحريك الإنسان نحو الهدف المنشود ، ألا و
هو الكمال البشري و السعادة الأبدية ، المتمثل في عبودية الله سبحانه كما هو أهله
، و القيام بدور خلافة الله في الأرض كما أراد الله سبحانه .
و من هنا فإن القرآن الكريم و هو
في طريق هدايته للإنسان و إخراجه من الظلمات إلى النور ، يذكر كثيرا من المسائل و
القضايا المعاصرة للإنسان في مختلف الحقول و المجالات ، كالتاريخ و الاجتماع
والفقه و الأخلاق ... بل و حتى فيما يرتبط بالطبيعة كالسماء و الأرض والجبال و
البحار ...
و من المؤكد أن تناول القرآن لكل تلك القضايا لا يجعل منه كتابه لأي من تلك
العلوم ، لأن هدف القرآن الكريم هو هداية الإنسان كما قلنا و ليس تعليمه شيئا
معينا من تلك العلوم .
فكتاب الفيزياء مثلا ، لا يصبح كتابا للغة العربية ، لمجرد كونه مكتوبا
بلغة عربية صحيحة ، ويشتمل على الفعل والفاعل و المفعول به و غير ذلك من مسائل
اللغة العربية أدبياتها ..
نعم بما أن القرآن الكريم كتاب أنزله الله سبحانه و تعالى على نبيه الأكرم
(ص) و عصمه من التحريف و الزيادة و النقصان ، فهو حق محض لا يأتيه الباطل من بين
يديه و لا من خلفه ، فإن جميع ما ورد فيه ليس إلا الحق و لا شئ غيره ..
و من هنا فإذا وجدنا في القرآن آية تذكر لنا حكما شرعيا ، فإن ذلك لا شك
حكم الله سبحانه ، و لا يمكن لأي شئ أن يعارضه ، إلا أن صياغة حدود ذلك الحكم و
تطبيقاته و استثناءاته و جميع متعلقاته ، لإخراجه في النهاية في صورة حكم شرعي
تعبدنا الله سبحانه به ، أمر متروك للنبي الأكرم (ص) بصريح القرآن الكريم ، إذ
يأمرنا الحق تبارك اسمه في آيات كثيرة بطاعة الرسول (ص) والأخذ بقوله {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن
توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين}(التغابن/12) { وما أرسلنا من رسول إلا
ليطاع بإذن الله ..}(النساء/64) {.. وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
واتقوا الله إن الله شديد العقاب}(الحشر/7)
بل إن القرآن الكريم يجعل مسؤولية تبيين آياته و مراده منها على عاتق النبي الأكرم (ص) {..وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}(النحل/44)
نظرة تحليلية لآيات الأحكام :
يبدو أن كثيرا من العلماء يحصرون الأحكام الشرعية المذكورة في كتاب الله
العزيز في خمسمائة آية ، يطلقون عليها ( آيات الأحكام ) .
و قد ألفوا كتبا عدة في تفسيرها و استخلاص الأحكام الشرعية منها ، و قد كان
أول من ألف في هذا المضمار محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 146 للهجرة الشريفة
، و سار على نهجه قطب الدين الراوندي من علماء القرن السادس الهجري تحت عنوان (فقه
القرآن) ، و المقداد السيوري من علماء القرن التاسع الهجري في كتابه (كنز العرفان في
فقه القرآن) ، و للمولى محمد إبراهيم الاسترآبادي في أواخر القرن العاشر الهجري كتاب
بعنوان ( آيات الأحكام ) .
و كذلك كان لعلماء أهل السنة نصيبهم من تفسير آيات الأحكام ، فكان الشافعي
في أواخر القرن الثاني أول عالم سني ألف في هذا المجال إذ صدر له كتاب تحت عنوان (
أحكام القرآن ) ، وفعل الجصاص من علماء القرن الرابع الهجري الشئ نفسه ، و كذلك
ابن العربي في القرن السادس الهجري ، ثم القرطبي في القرن السابع ، وهكذا ..
و فيما يلي نتناول بالتحليل بعضا من تلك الآيات الشريفة التي سميت بآيات
الأحكام ، و ننحو في ذلك منهج الكتب الفقهية ، فنستعرض الآيات الشريفة بحسب
مواضيعها الفقهية :
1/ الوضوء :
قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم
وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين}(المائدة/6) .
يقول القطب الراوندي : فإنه يدل بظاهره على وجوب أربعة أفعال مقارنة للوضوء
، ويدل من فحواه على وجوب النية فيه ، لأنه عمل والأعمال بالنيات .
ويدل قوله تعالى {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} على وجوب عشر
كيفيات مقارنة للوضوء ، وعلى وجوب أربعة أشياء قبل الوضوء ، وهي تركان وفعلان ،
التركان أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها في حال الخلاء ، والفعلان تطهير مخرج
البول وتطهير مخرج الغائط .
وإذا ثبت وجوب الطهارة - لأن الله أمر بها و الأمر في الشرع على الوجوب لا يحمل
على الندب إلا لقرينة - فاعلم أنهم اختلفوا هل يجب ذلك كلما أراد القيام إلى الصلاة
أو في بعضها أو في أي حال هي ؟
فقال قوم : المراد به إذا أراد القيام إليها وهو على غير طهر ، وهو المروي
عن ابن عباس وجابر .
وقيل : معناه إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة ، و روي أن الباقر عليه السلام
سئل ما المراد بالقيام إليها ؟ فقال : المراد به القيام من النوم .
وقيل : المراد به جميع حال قيام الانسان إلى الصلاة ، فعليه أن يجدد طهر
الصلاة ، عن عكرمة وقال كان علي عليه السلام
يتوضأ لكل صلاة ويقرأ هذه الآية ، وهذا محمول على الندب .
يقول المقداد السيوري : ثم اعلم أن ظاهر الخطاب يعم كل قائم محدثا كان أو غيره
وهو باطل لأنه خلاف الإجماع ، ولأنه (ص) صلى الخمس في يوم فتح مكة بوضوء واحد فقال
عمر : صنعت ما لم تصنعه ؟ فقال (ص) : عمدا فعلته .
لا دلالة على الابتداء
بالمرفق و لا بالأصابع ، لأن الغاية قد تكون للغسل وقد تكون للمغسول وهو المراد هنا
، بل كل من الابتداء والدخول مستفاد من بيان النبي (ص) فإنه توضأ وابتدأ بأعلى الوجه
وبالمرفقين وأدخلهما ، وإلا لكان خلاف ذلك هو المتعين لأنه قال (ص) : هذا وضوء لا يقبل
الله الصلوة إلا به .
ملاحظة :
نلاحظ أن الاستدلال هنا قرآني في إثبات وجوب أربعة أفعال ( غسلان و مسحان )
و فيما عدا ذلك فالاستدلال لإثبات سائر أحكام الوضوء روائي و ليس فيه من القرآن شئ
!!
و قد صرح بذلك القطب
الراوندي عندما استدل بقوله تعالى {ما آتاكم الرسول فخذوه .. } مؤكدا بذلك على أن
أحكام الوضوء ينبغي أخذها من النبي الأكرم (ص) ، و لا يصح فيها الإكتفاء بالقرآن
الكريم !!
و نلاحظ عند الفاضل
المقداد السيوري أن الإجماع و الرواية يغلبان ظاهر الآية الشريفة في بيان بعض
أحكام الوضوء !!
تدبر الآية الكريمة
:
{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم
وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا
وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء
فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج
ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}(المائدة/6) .
من الثوابت
التاريخية أن الرسول الأكرم (ص) كان يصلي حتى قبل بعثته المباركة ، و كان يأمر
المسلمين بالصلاة ، و لطالما تعرض المسلمون للأذى و هم يصلون لله سبحانه ، حتى نزل
قوله تعالى {أرأيت الذي ينهى . عبدا إذا صلى}(العلق/10) في أبي جهل عندما أراد أن يمنع
رسول الله (ص) من الصلاة ، كما ورد في مجمع البيان .
و معلوم أن لا صلاة
إلا بطهور ، مما يعني أن النبي الأكرم (ص) قد بين للمسلمين كيفية الوضوء و شرع لهم
أحكامه ، بالتزامن مع تعليمهم الصلاة .
و من الثابت أيضا
أن سورة المائدة التي فيها آية الوضوء ، آخر ما نزل على رسول الله (ص) ، أي أن
مسجد النبي الأكرم في المدينة المنورة كان قد شيد بناؤه قبل نزول آية الوضوء ..
و بناء على ذلك
فإننا نجزم بأن آية سورة المائدة لم تأت لتشرع حكم الوضوء و لا لتعلم الناس كيفيته
و أحكامه .. إذ لا يعقل أن يبقى المسلمون طوال هذه المدة المديدة ، و هم في دولة
الإسلام يعبدون الله سبحانه من دون أن يضايقهم أحد ، و يقيمون الصلاة و يؤدون
الزكاة و يلتزمون بسائر الواجبات العبادية ، و هم لا يعرفون الوضوء !!
و هذا ما يدفعنا
إلى القول بأن مراد الله سبحانه من هذه الآية الكريمة غير ما يحمله لنا ظاهر اللفظ
و الكلمات .
و بقليل من التدبر
، ندرك أن الآية الكريمة ترشدنا إلى أن الله سبحانه رحيم بعباده لا يريد بهم العنت
و لا يكلفهم ما لا يطيقون ، و لم يجعل عليهم في الدين من حرج ..
و ليوضح القرآن
الكريم مراده هذا يلبس الآية المباركة ثوب حكم الوضوء ، المعروف مسبقا عند
المسلمين ، ليقول لهم أن الوضوء الذي تعرفونه ، و تعلمون أنه مقدمة للصلاة التي هي
عمود الدين ، و التي إن قبلت قبل ما سواها و إن ردت رد ما سواها ، هذا الوضوء لم
يشرعه الله تعالى ليشق عليكم ، فمتى ما وجدتم في أنفسكم حرجا من الوضوء ، سواء من
مرض أو سفر أو غير ذلك ، فليس عليكم أن تشقوا على أنفسكم ، بل يمكنكم أن تتيمموا
بدلا عن الوضوء ..
فالوضوء هنا ليس
مقصودا بما هو حكم شرعي ، و لا تتعرض له الآية الكريمة لبيان حكمه ، و إنما
تستعرضه كمثال على سهولة التشريع و يسر الدين الإسلامي الحنيف .
نخلص مما قدمنا إلى أن القرآن الكريم جاء لهداية الناس و إرشادهم إلى صراط العزيز
الحميد ، وليمنحهم السعادة و الكرامة و الحياة الطيبة ، في الدنيا و الآخرة {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا}(الإسراء/9) .
و لاشك في أن هداية الناس أمر في غاية الأهمية فلا يمكن أن ينحصر بفقه أو
علم أو عبرة أو عظة أو غيرها ، و إن كانت كلها تمثل مفردات مهمة في منظومة الهداية
القرآنية ، و بمجموعها تتألف وتكتمل ، لتصبح طريقا يوصل الإنسان إلى مرضاة الله
سبحانه {أومن كان ميتا
فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها
كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون}(الأنعام/122) .
و في ضوء ذلك فإن ما نقرأه في كتاب الله المجيد من آيات تتناول أحكاما
شرعية ، ليس في الحقيقة تشريعا لتلك الأحكام ، و إنما هي أمثلة يضربها القرآن
الكريم لبيان حقائقه و إيصال هدايته إلى الناس {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل
لعلهم يتذكرون}(الزمر/27)
فمؤسس المنظومة
الفقهية في الإسلام هو النبي الأكرم (ص) و هو المبلغ لأحكام الله سبحانه والمبين
لحدوده تعالى ، و هو المشرع المطاع بإذن الله تبارك و تعالى { وما أرسلنا من رسول
إلا ليطاع بإذن الله ..}(النساء/64) .